بحث حول انحصار لفظ (الأهل) في آية التطهير بفاطمة وبعلها وولدها

بقلم: السيد نبيل الحسني

قد لا يخفى على الباحث والمتتبع لشؤون المجتمع العربي الدور الكبير للعشيرة والأهل في تكون التحزبات والتجمعات لدى الإنسان العربي.

فالعشيرة والأهل، هم مصدر القوة، والمال، والعزة، والحسب، والتفاخر، والمنعة، والغلبة، والسلطان، وغيرها من المعان والدلالات الراسخة في العقلية العربية قديماً وحديثا وإن تفاوتت من مجتمع إلى آخر كالعراق واليمن ومصر فكل مجتمع منها تتفاوت فيها هذه العناصر المكونة للمجتمع.

في حين كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعند بدئه في تكوين مجتمع جديد في المدينة المنورة قد اختار من هذه المفاهيم مفهوماً واحداً وهو أن لا قيام للإنسان بدون التقوى فالأهل تجمعهم التقوى وتفرقهم كذلك، كما كان حال نوح وولده.

قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[1].

والقرآن في هذه الآية المباركة لم يكن ليغض الطرف عن علاقة الإنسان بالأهل وانجذابه الفطري إلى أهله وارتباطه وتمسكه بهم وإن لهم الحظوة لديه، فهم مبدأ نشأته ونموه وأساس وجوده في الحياة.

لكن هذه الأحاسيس والروابط النفسية والروحية لم تكن حاجزاً ــ وبحسب المفهوم القرآني ــ عن طاعة الله تعالى؛ إذ إنها تنهار فيما لو كان أحد أفراد الأهل خارجاً عن عنوان التقوى كما هو حال ابن نبي الله نوح عليه السلام.

بل: يأتي القرآن في مواضع أخرى يظهر للمسلم وفي مجتمعه الجديد الأسس التي يقوم عليها هذا المجتمع الذي انظم إليه فكان أحد مكوناته واحد عناصر وجوده وديموميته.

فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ...}[2].

أي: الاستفادة من هذه الفطرة، ومن هذه الروابط النفسية والروحية لتكون حافزاً في نجاة هؤلاء (الأهل) من النار.

لكن هؤلاء الأهل إذا كانوا حائلاً بين المسلم وبين طاعة الله عزّ وجل ويدفعون به إلى الخروج عن الطاعة لله فيتلبس فيه معنى آخر وهو الفسق، كما هو واضح في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[3].

وهنا: يقدم القرآن معنى جديداً للحب بكونه أحد المكونات الأسرية وواحداً من أهم الروابط التي تجمع الأهل فيجعله القرآن ضمن ضابطة جديدة ترتكز على حب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

أما في مفهوم الموالاة فكذاك يقدم القرآن ضابطة وقاعدة جديدة يرتكز عليها هذا البناء الأسري في الإسلام، إلا وهو الموالاة لله تعالى.

يقول سبحانه: {لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[4].

فمن هذه المفاهيم القرآنية الجديدة في إعادة بناء الأسرة في المجتمع الإسلامي وبلحاظ إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو العمود الفقري لهذا المجتمع وأن له أهلاً كما للمسلمين، وتربطه بهم مجموعة من الروابط كما تربط كل إنسان بأهله ــ مع الفارق ــ في تقنين هذه المفاهيم كما أسلفنا ومن ثمّ فإن هؤلاء الأهل الذين ينتمي إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينتمون إليه وتربطه بهم روابط الحب والألفة والدم والقرابة؛ وجب معرفتهم كما يعرف المسلمون كلاً أهله، وإن لهم عليه حقوقاً، وله عليهم حقوقاً كذلك، لذا لزم على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تعينهم وإظهارهم للناس كي يعلم المسلمون ما يجب عليهم من الحقوق اتجاههم، مع ملاحظة: إن هؤلاء لهم خصوصية الأهلية التقوائية التي جاء بها القرآن كعنصر أساس في قيام الأهل أو فك جميع الأواصر بهم.

وعليه: كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من واجبه الشرعي أن يحدد للمسلمين من هم أهله بالمنظور القرآني والتحديد الرباني، إذ ــ وكما أسلفنا ــ للمجتمع الإنساني والعربي (تحديداً) مفاهيم أخرى في تكوين الروابط الأسرية والأهل.

لاسيما وأن النبي الهاشمي القرشي له أقارب وأبناء عمومه وعشيرة كبيرة لم يكن لها مثيلاً في الحسب والمفاخر، فضلاً عن تزوجه من نساء عدة فكانت مصاهرته لهذه القبائل عامل آخر في اتساع دائرة القرابة وتداخلها مع هذه البيوتات بحسب ما تفرضه القوانين القبائلية في تكون المجتمع العربي.

من هنا: كان اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ وبحسب هذا المكون الاجتماعي ــ أن يشرع في تحديد الأهل للناس جميعاً كي يدرك المسلم ما لهؤلاء من حقوق وواجبات ينبغي مراعاتها وذلك بحسب مجموعة من المفاهيم.

1 ــ إن لهم حرمة الدم التي تأسس عليها المجتمع الإنساني وخصوصاً العربي فضلاً عن تثبيت القرآن قانون القصاص في مجال الحدود والتعزيرات.

2 ــ إن لهم حرمة الشأنية إذ إن المجتمع العربي وغيره من المجتمعات بني على تلازم شأنية كل فرد بحسب أسرته وأهله، ومن ثمّ فلهم من الشأنية الاجتماعية ما لغيرهم من الأسر المحترمة التي بلغت مراتباً عالية من المآثر والمفاخر وهو ما يعرف بالحسب.

3 ــ إن التعدي على أحدهم تعدي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

4 ــ إن إكرام أحدهم هو إكرام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فهذه المفاهيم وغيرها من الأسس التي قام عليها المجتمع هي نفسها موجودة لدى (الأهل) الذين اختص بهم النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم واختصوا به.

فكيف إذا ألحقت بها أسس جديدة سنها القرآن وأوجبها على الأمة جميعاً والتي كان الملاك فيها والقاعدة التي بني عليها هذا البناء الجديد هي التقوى؛ وإن لهم ــ فضلاً عما للمسلمين مع أهلهم ــ من الحقوق المذكورة.

ولذلك: حدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هم أهله للمسلمين كي لا يحتج محتج يوم القيامة فيقول لم أعلم من هم؛ فكان ذلك من خلال مجموعة من الأقوال والأفعال النبوية كشفت عن هؤلاء الأهل؛ وما يترتب على هذه الأمة من حقوق اتجاههم ضمن تلك الأسس التي جاء بها القرآن الكريم، فكانت كالآتي:

ألف: التلازم بين نزول الوحي وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد الأهل


لو نظرنا إلى القرآن الكريم وتدبرنا في آياته لاسيما المتعلقة بعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام لوجدنا تلازماً لا ينفك بين الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمرة يسبق الوحي الفعل النبوي، وأخرى يسبق النبي الوحي في بيان أمرٍ شرعي لاسيما فيما يختص بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ويبدو أن الأمر منحصر في الحكم الشرعي وما له عند الله تعالى من المنزلة والشأنية التي حرص الأنبياء جميعا على إظهارها، ولأجلها كانوا ينطقون في تبليغهم فصدعوا بما أمروا في تعليم الناس: إن لا حرمة فوق حرمة الشريعة، وإن أهل الشريعة اكتسبوا هذه المنزلة لاختصاصهم بالحكم الشرعي المرتبط بالله عزّ وجل فهو صاحب الشريعة.

من هنا: نجد أن هذا التلازم بين الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لارتباط أهله بالحكم الشرعي وما يفرضه على المسلم من حدود قد حذر القرآن أشد التحذير من تعديها أو المساس بها حتى أصبح المبتدعون أي الذين يدخلون أحكاماً إلى الشريعة ما أنزل الله بها من سلطان مصيرهم الحتمي إلى النار لأنهم أهل ضلال.

ومن هنا أيضاً أصبح آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم تلك الحرمة الشرعية المتلازمة مع حرمة الحكم الشرعي وإلا لا معنى أن يكون الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أتى بكل هذا البيان لمجرد أن لهم صفة الرحم والقرابة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وواقع الحال يحكي عن وجود أرحام وأقارب للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فلماذا لم يهتم بهم الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بحجم هذا الاهتمام الذي قدمه القرآن والنبي لفاطمة وبعلها وبنيها عليهم أفصل الصلاة والسلام؟!

وعليه:كان هذا التلازم ظاهراً لكل قارئ للقرآن مطلع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففي الوقت الذي ينزل الوحي بقوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[5].

يقوم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ببيان من هم أهل بيته فيخرج فاطمة وعلي وولديهما، وذلك من خلال هذا الحديث النبوي الذي أخرجه كثير من الحفاظ لاسيما مسلم النيسابوري في صحيحه عن عامر بن سعد بن ابي وقاص عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً (أن يسب علي بن أبي طالب فامتنع) فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟

فقال: أما ما ذكرت واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم يقول له (وقد) خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: «يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟».

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي».

وسمعته يقول يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله».

قال: فتطاولنا لها، فقال: «أدعو لي علياً».

فأتى به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه؛ ولما نزلت هذه الآية: {...فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ...}، دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسنا وحسيناً، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي»)[6].

والحديث مع شواهد أخرى تناولنا ذكرها في الفصل السابق في منزلة فاطمة في آية المباهلة.

باء: استخدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوسائل التعليمية في بيان مراد الوحي في التشديد والمبالغة بحصر الأهل بفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام


يلجئ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الوسائل التعليمية في إرشاد المسلمين إلى معرفة الحكم الشرعي كي يرسّخ ذلك في أذهانهم ويذهب عنهم التأويلات والآراء والأباطيل والبدع التي يلجئ إليها المنافقون والظالمون والساسة لغرض مصالحهم الشخصية.

واستخدام النبي الأكرم للوسائل التعليمية والإرشادية في بيان دلالة الحكم الشرعي كثيرة لا يسعنا تتبعها في هذه الأسطر، ولكن فيما يخص إرشاد الناس إلى معرفة آل النبي وعترته وأهل بيته استخدم وسيلة القماش في إرشاد الناس إلى حصر أهل بيته بمن يجللهم هذا القماش أو الكساء وجمعه لأطراف هذا الكساء لقطع الطريق على من يعتقد أن أهله غير هؤلاء بلحاظ ما للمجتمع الإنساني والعربي من عرف في معنى الأهل.

ولذلك: كانت هذه الوسيلة التعلمية للناس ــ على بساطتها ــ إلاّ أنها بالغة الدلالة في تحديد أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحصرهم بهؤلاء الأربعة وهم (فاطمة وعلي وولديهما صلوات الله عليهم أجمعين)؛ وذلك كما دلت عليه الأحاديث الآتية:

1 ــ أخرج الحاكم النيسابوري عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن أبيه قال:

(لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة هابطة، قال: «ادعوا لي ادعوا لي».

فقالت صفية: من يا رسول الله؟ قال: «أهل بيتي علياً وفاطمة والحسن والحسين».

فجيء بهم فألقى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كساءه ثم رفع يديه، ثم قال: «اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد»، وأنزل الله عزّ وجل: {...إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[7])[8].

2 ــ روى الحاكم عن عامر بن سعد يقول: قال سعد ــ بن أبي وقاص ــ: (نزل على رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم الوحي فأدخل علي وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ثم قال: «اللهم هؤلاء أهلي وأهل بيتي»).

ونلاحظ هنا أن الفعل النبوي قد تلازم مع الوحي في بيان أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحصرهم من خلال هذه الوسائل الإرشادية كي لا يبقى أحد يعتقد أن آل محمد وأهل بيته غير هؤلاء الأربعة.

وهذا المعنى قد التفت إليه الحاكم النيسابوري، أي الحكمة في استخدام النبي للكساء أو الثوب في بيان مراد القرآن والوحي في تحديد الآل والأهل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهؤلاء الأربعة فقط دون غيرهم، فقال: (وقد روى هذا الحديث بإسناده وألفاظه حرفاً بعد حرف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري عن موسى بن إسماعيل في الجامع الصحيح؛ وإنما خرجته ليعلم المستفيد أن أهل البيت والآل جميعاً هم)[9].

بمعنى: أن آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته هم واحد، وهم هؤلاء الأربعة الذين جللهم بالكساء، وهم الذين أخرجهم للمباهلة.

والحديث الذي قال عنه الحاكم: (وقد روى هذا الحديث بإسناده وألفاظه حرفاً بعد حرف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري هو هذا: ــ قال ــ عبد الرحمن بن أبي ليلى: لقيني كعب بن عجرة فقال: إلا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم؟
قلت: بلى، قال: فأهدها إليه.

قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم فقلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»)[10].

3 ــ أخرج أحمد بن حنبل، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلل على علي وحسن وحسين وفاطمة كساء ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا». فقالت أم سلمة: يا رسول الله أنا منهم؟ قال:«إنكِ على خير»)[11].

وتظهر الحكمة بشكل كبير في اعتماد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرشاد الناس وبالأخص أزواجه إلى تحديد أهل بيته وذلك حينما كان تجليله لهم بالكساء في دار أم سلمة وفي رواية في دار عائشة كي لا تتعدى إحداهن بأنها من آله وأهل بيته الذين حددهم القرآن وليس الذين يحددهم المجتمع فيكون المعنى مجازي وذلك بالرجوع إلى العشرة والمودة فقد يصبح إثنان من الناس وبسبب العشرة الطيبة بأنهم أهل ولعل المودة والأخلاق الحميدة تجعلهم قريبين إلى القلب بأكثر مما يمتاز به أهل البيت الواحد الذين تربطهم رابطة الدم.

ولذلك: المراد بآل النبي وأهل بيته هم أولئك الأربعة وليس أزواجه أو أقرباءه أو أحبابه وخلانه وأصحابه وإن كان لأحدهم مكانة في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا لا يعني أنهم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والذين حرم عليهم الصدقة.

من هنا: ندرك حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في استخدام الكساء في دار أم سلمة أو عائشة أو غيرها وندرك أيضاً معنى أن يجمع النبي أطراف هذا الكساء ويمنع أم سلمة من الدخول تحته وقوله لها أنك على خير.

جيم: استخدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمثلة في إرشاد الناس إلى الحكم الشرعي تلازماً مع المنهج القرآني


إنّ من المنهاج الإرشادية التي جاء بها القرآن في بيان الحكم الشرعية إلى الناس هو ضرب الأمثال لهم كي يلتفتوا إلى مراد الوحي ودلالة المثل فذلك أكثر وقعاً على الناس وامض أثراً في تحريك العقول ومن ثم يصبح ضرب الأمثال له من الخصوصية التأثيرية على النفس ما لا يحرز في غيره من الوسائل والمنهاج وذلك لتقاربه مع كثير من الأنماط الفكرية لدى الناس.

ففي أثر القرآن على الأشياء ونفاذه النوراني فيها ما جاء في سورة الحشر عند قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[12].

في حين نجد القرآن يضرب مثلاً آخر في قسوة قلوب الظالمين فيقول سبحانه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[13].

فهذه القلوب التي هي أشد قسوة من الحجارة لم يكن القرآن لينفذ بنوره إليها في حين يكون أثره فيما لو أنزل على جبل أن يتصدع من خشية الله تعالى.

وفي دور الكلمة الطيبة الاصلاحي في النفس الإنساني يضرب الله مثلا لذلك فيقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}[14].

ولعل تتبع الآيات يخرج المبحث عن موضوعه ولكن أردنا أن نظهر للقارئ الكريم أن هذا المنهج الإرشادي الذي جاء به القرآن استخدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان منزلة فاطمة وأهل بيته عليهم السلام في هذه الأمة وموضعهم من الرسالة، فكانت كالآتي:
1 ــ أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه، (عن حنش الكناني قال: سمعت أبا ذر صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم يقول: «ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»)[15].

وهنا: نلاحظ استخدام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم السفينة كمثل في دور أهل بيته عليهم السلام في نجاة أمته من الغرق، ولا شك أن الغرق المقصود هو بحر الشبهات والبدع والضلال فمن تخلف عن أهل البيت غرق في الضلال والبدع كما خرق قوم نوح في الضلال فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة فالنتيجة واحدة في الأمتين، أمة نوح وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ويمضي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في ضرب الأمثال لبيان دور أهل بيته عليهم السلام في هذه الأمة ومنزلتهم من الرسالة، فيأتي بأمثلة أخرى، وهي:

2 ــ يروى الطبراني والبزار وغيرهم حديث السفينة عن أبي ذر ثم يردف بمثال آخر لدور أهل البيت عليهم السلام فيمثلهم صلى الله عليه وآله وسلم في (باب حطة في بني إسرائيل)[16].

ولا يخفى على المتتبع أن باب حطة في بني إسرائيل كان هو الوسيلة الابتلائية للأمة.

3 ــ أخرج الحاكم الحسكاني، وابن حجر العسقلاني وغيرهم عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنا الشجرة وفاطمة فرعها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها وشيعتنا ورقها وأصل الشجرة في جنة عدن وسائر ذلك في سائر الجنة»[17].

4 ــ عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أنا ميزان العلم، وعلي كفتاه، والحسن والحسين خيوطه والأئمة من أمتي عموده، وفاطمة علاقته توزن فيه أعمال المحبين لنا، والمبغضين لنا»[18].

5 ــ روى صاحب نوادر الأصول: (عن علي ــ عليه السلام ــ عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم إن لك في الجنة كنزا وإنك ذو قرنيها فلا تتبعن من النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الأخرى، فمعنى الكنز فاطمة وقرنيها الحسن والحسين ــ عليهم السلام ــ صيرها بمنزلة الكنز لأن الكنز موضوع مستور إليه الموبل وسائر المال ظاهر يذهب ويجيء والكنز أصل المال فشبه فاطمة ــ عليها السلام ــ عنها من نعيم الجنة بالكنز من المال ثم قال وأنت ذو قرنيها نسب»)[19].

6 ــ روى الشيخ الطوسي بسنده عن الأمالي: (عن موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي عليهم السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال:

صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما صلاة الفجر، ثم انفتل وأقبل علينا يحدثنا، فقال: «أيّها الناس، من فقد الشمس فليتمسك بالقمر، ومن فقد القمر فليتمسك بالفرقدين».

قال: فقمت أنا وأيوب الأنصاري ومعنا أنس بن مالك، فقلنا يا رسول الله، من الشمس؟ قال: «أنا». فإذا هو صلى الله عليه وآله وسلم ضرب لنا مثلا، فقال: «إن الله تعالى خلقنا وجعلنا بمنزلة نجوم السماء كلما غاب نجم طلع نجم، فأنا الشمس فإذا ذهب بي فتمسكوا بالقمر».

قلنا: فمن القمر؟ قال: «أخي ووصيي ووزيري وقاضي ديني وأبو ولدي وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب». قلنا: فمن الفرقدان؟ قال: «الحسن والحسين».

ثم مكث ملياً وقال: «فاطمة هذ الزهرة، وعترتي أهل بيتي هم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض»)[20].

ولعل الكلمة الطيبة التي ضربها الله مثلاً في القرآن هي محمد وأهل بيته عليهم السلام وذلك أن القرآن قد أطلق على عيسى وغيره لفظ(الكلمة)، كما في قوله تعالى:

 1 ــ قال تعالى: {...الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ...}[21]. وكما في ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام.

2 ــ قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ...}[22].

إذن: الحكمة في استخدام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للأمثال كمنهج إرشادي في بيان مراد الشيعة وتفريغها لأهل البيت عليهم السلام وتحديد منزلتهم ودورهم الرسالي إنما كان تبعاً للقرآن الكريم وتلازمه للوحي كي يقطع الطريق على من يتعذر الجهل وعدم المعرفة في أن أهل البيت عليهم السلام هم هؤلاء الأربعة وإن دورهم الإصلاحي والرسالي إنما كان من خلال تلك الأمثلة التي ضربها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة.

ــــــــــــــــ
[1] سورة هود، الآية: 46.
[2] سورة التحريم، الآية: 6.
[3] سورة التوبة، الآية: 24.
[4] سورة التوبة، الآية: 23.
[5] سورة آل عمران، ألآية: 61.
[6] حدّثنا الربيع المرادي، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد عن أبيه، قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسن وحسيناً عليهم السلام، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي)؛ أبو داود، إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، و(أسد بن موسى) المصري احتج به النسائي، وعلق له البخاري في تاريخه الكبير برقم 1645 بقوله: مشهور الحديث، يقال له: أسد السُنّة) ووثقه النسائي، وابن يونس، وابن حبان، والعجلي، وابن نافع، وأبو يعلى، والخليلي في (الإرشاد) وضعفه ابن حزم ولكن رد عليه الذهبي قائلاً: وما علمت به بأساً؛ رواه مسلم كاملاً في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام حديث (2404) بتسلسل 32، والترمذي في الجامع الصحيح كتاب تفسير القرآن باب 4 حديث 2999 وأخرجه الحاكم في المستدرك ج3 ص108 / 109 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق وساقه الذهبي في التلخيص على المستدرك ج3، ص108؛ لكنهم أخرجوه ضمن آية المباهلة، ورواه النسائي في (الخصائص) رقم 54؛ وابن جرير في تفسيره ج22، ص8؛ والطحاوي في مشكل الآثار ج2، ص35، حديث 761؛ والترمذي في صحيحه كتاب المناقب باب فضائل فاطمة حديث 3871 عن شهر بن موسى عن أم سلمة وفي المعجم الصغير للطبراني: ج2، ص91 حديث 170 وجاء فيه (هؤلاء حامتي وأهل بيتي).
[7] سورة الأحزاب، الآية: 33.
[8] المستدرك للحاكم النيسابوري: ج3، ص147.
[9] المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج3، ص147.
[10] المصدر السابق نفسه.
[11] مسند أحمد بن حنبل: ج6، ص304.
[12] سورة الحشر، الآية: 21.
[13] سورة البقرة، الآية: 74.
[14] سورة إبراهيم، الآية: 24.
[15] المستدرك للحاكم النيسابوري: ج2، ص343، وج3، ص151؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج4، ص10؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج1، ص362؛ مسند البزار: ج3، ص222، حديث (2615)؛ المعجم الوجيز للميرغني: ص377، حديث (737)؛ الأمثال في الحديث النبوي: برقم (1037)، ط المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ اللباب: ص213؛ المشكاة للتبريزي: ج3، ص265؛ كشف الأستار، كتاب علامات النبوة، باب: مناقب أهل البيت عليهم السلام: حديث 2615.
[16] كفاية الأثر للخزار القمي: ص39؛ كتاب سليم بن قيس: ص457؛ مناقب الإمام علي لابن سليمان الكوفي: ج2، ص146؛ الأمالي للطوسي: ص60؛ فتح الوهاب تخريج أحاديث الشهاب: ج2، ص331؛ الجامع الصغير للطبراني: ص391؛ الجامع الكبير للطبراني: ص2637؛ ورواه القضاعي في مسند الشهاب برقم (1342) ورواه البزار برقم (2615) والطبراني (12638 و 12388) وأبو نعيم في الحلية (4 / 306) والفسوى في المعرفة (1 / 538) وابن عدي (2 / 719 ــ 720) وفي جمع الفوائد للمغربي: ج3، ص295، حديث 9016، عن ابن الزبير؛ وفي كتاب الأمثال لأبي الشيخ الأصبهاني: ص247، حديث 333؛ كنز العمال: ج12، ص99؛ شواهد التنزيل للحسكاني: ج1، ص362؛ تنبيه الغافلين لابن كرمة: ص138.
[17] مستدرك الحاكم: ج3، ص160؛ شواهد التنزيل للحسكاني: ج1، ص408؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج14، ص168؛ الإصابة لابن حجر: ج6، ص306؛ فضائل أمير المؤمنين لابن عقدة الكوفي: ص158؛ البصائر والذخائر لابني حيان التوحيدي: ج1، ص313؛ الأمالي للطوسي: ص611.
[18] مسند الفردوس للديلمي: برقم 107؛ اتحاف السائل للمناوي: ص7، حديث 39.
[19] نوادر الأصول في أحاديث الرسول: ج3، ص181.
[20] الأمالي: ص516 ــ 517.
[21] سورة النساء، الآية: 171.
[22] سورة الزخرف، الآية: 28.

إرسال تعليق